|
القاسم المشترك

بعد أن نجح صلاح الدين الأيوبي من تخليص القدس من غزو الصليبيين عام 1187 ميلادية، قام ببعض الترتيبات الديموغرافية في المدينة، حيث قام بتوطين المسلمين من جنسيات مختلفة داخل مناطق مختلفة في القدس؛ كانت إحداها "حي المغاربة" والذي يقع على الجانب الغربي من القدس ويضم مسلمي المغرب. (يُشار إلى أنّ هذا الحي تم تدميره بالجرافات فور احتلال إسرائيل له عام 1967). صلاح الدين الأيوبي لم يهمل كذلك ما هو خارج سور المدينة، حيث قام -وكأنه يرى المستقبل- بتأسيس "مستعمرات إسلامية" صغيرة هناك. وفي هذا السياق ذاته منح القائدُ الأيوبي طبيبَه الخاص حسام الدين الجراح، منطقة في الجزء الشمالي من سور القدس، أقام فيها الطبيب الصوفي هو وعائلته وأصدقاؤه. وبعد وفاة الشيخ الجراح تم بناء جامع ومقبرة باسمه، حتى أن الحي حتى اليوم يعرف بحي الشيخ الجراح.

واعتبارًا من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تحول حي الشيخ الجراح إلى وجهة مفضلة للنخبة المسلمة في القدس، من آل الحسينيين والنشاشيبي، والقائمين على وقف حماية الأقصى، فضلًا عن العلماء والتجار. وبعبارة أخرى إن صح التعبير، كان حي الشيخ الجراح قبل احتلال القدس، كالمغناطيس الذي كان يجذب الطبقة الرفيعة من أهالي القدس. ولعل أهم أسباب ترجيح هذا الحي؛ هو وقوعه قريبًا من "باب دمشق" الذي يعتبر أجمل وأبهى مداخل سور القدس.

أما في الفترة التي كانت قريبة من تأسيس إسرائيل، فلقد تحول حي الشيخ الجراح إلى منطقة صراع وتوتر، وذلك بسبب كونه محاذيًا لغرب القدس ذات الغالبية اليهودية. وبسبب احتضانه للجدار الذي كان يفصل بين القدس الغربية والشرقية ما بين عامي 1948 و1967، واجه الحي هجمات فعلية من قبل الصهاينة. ووصولًا إلى العام 1999 ومعه حتى مطلع الألفية الثالثة، وصل الحال بحي الشيخ الجراح إلى درجة قيام المحتلين بمحاولة الاستيطان بمنازل بعض العائلات الفلسطينية بالحي. حتى أن المستوطنين الذين كانوا يضعون المحكمة الإسرائيلية العليا وراء ظهورهم، قاموا بإخراج عائلتين من منازلهما بحي الشيخ الجراح عام 2009، كما استولوا على نصف منزل عائلة الكرد واستوطنوا فيه. وأما الوثائق الرسمية التي تعود للعهد العثماني، لم تنقع الفلسطينيين أمام المحاكم الإسرائيلية.

لقد استيقظنا الأسبوع الماضي على خبر وفاة أبرز الشاهدين على جميع تلك المآسي، إنها "رفقة الكرد" المشهورة باسم أم نبيل، عن عمر ناهز 103 أعوام. ولدت أم نبيل عام 1917، في مدينة يافا التي تعتبر إحدى المدن الساحلية في فلسطين. ومع احتلال الصهاينة عام 1948 انتقلت أم نبيل رفقة عائلتها لتستقر في حي الشيخ الجراح بالقدس. إلا أنها لم تسلم من اعتداءات الصهاينة المحتلين، حيث أقدموا على احتلال منزلها وإخراجها منه قسرًا عام 2009، إلا أنها قامت بتحدّيهم عبر خيمة بنتها بالقرب من هناك لتصبح أيقونة لا تُنسى. حيث تجمّع حول الخيمة لأسابيع كلُّ معارضو الاحتلال من ساكنين محليين وغرباء، وعبر التصريحات والمؤتمرات الصحفية، حاولت أم نبيل إسماع صوتها ونقل الصورة القائمة في حي الشيخ الجراح إلى العالم كله.

أما الشي المثير في الأمر، هو وقوف مئات اليهوديين ممن يعارضون سياسات الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب الفلسطينيين في هذا التجمع. كما قامت بعض المنظمات الإسرائيلية المناهضة للاحتلال خلال السنوات السابقة، بتنظيم اعتصامات في حي الشيخ الجراح ضد الاحتلال، لدرجة أنهم قاوموا أعمال التدمير التي تشنها الجرافات الإسرائيلية، وعلى الرغم من قلة عددهم؛ إلا أن مواقفهم كانت رمزية وحملت أهمية كبيرة.

بعد أربعة أيام فقط من رحيل أم نبيل، تفاجأنا بخبر وفاة المؤرخ الإسرائيلي وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية، زئيف ستيرنهيل، عن عمر يناهز 85 عامًا، يوم 21 حزيران/يونيو الجاري. اشتهر ستيرنهيل بأعماله ودراساته الأكاديمية حول الفاشية، كما عُرف بانتقاده الشديد لسياسات إسرائيل الاحتلالية على أرض فلسطين، ومعارضته لأنشطة الاستيطان في الضفة الغربية.

كانت انتقادات ستيرنهيل بالطبع غير مريحة للجبهة الصهيونية، لدرجة أنّ صهيونيًّا أمريكي الولادة، ويُدعى يعقوب تيتل، قام بالهجوم بواسطة قنبلة على ستيرنهيل، يوم 25 أيلول/سبتمبر عام 2008. إلا أن ستيرنهيل خرج سليمًا من تلك الحادثة، حيث أصيب برجله فقط، ومع ذلك واصل انتقاده للاحتلال بينما كان يتلقى العلاج داخل المستشفى عقب محاولة اغتياله.

هناك شيء طالما أدافع عنه منذ سنوات:

إن التعرف على الساحة الفلسطينية من خلال فاعلين سياسيين مشهورين فقط، والاعتماد عليهم فحسب؛ يكون عائقًا أمام التعرف على أشخاص مثل أم نبيل وستيرنهيل. ليتنا نقوم بوضع عناوين لأعمالنا حول فلسطين والقدس، من قبيل؛ "الشخصيات المتعددة المجتمعة معًا على قاسم مشترك هو معارضة الاحتلال الإسرائيلي، وسبل العمل معهم"، ربما من خلال ذلك تزيد قدرتنا على التحرك قليلًا ضمن أصعدة أكثر.

#الاحتلال الإسرائيلي
#حي الشيخ الجراح
#القدس
٪d سنوات قبل
القاسم المشترك
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة
الصراع ليس بين إسرائيل وإيران بل في غزة حيث تحدث إبادة جماعية
التحرر من عبودية الأدوات والسعي لنيل رضا الله
هجوم أصفهان